[color=red]بسم الله الرحمن الرحيم
(وما محمدُ إلا رسولٌ قد خلت من قبله الرسل أفأن مات أو قتل انقلبتم على أعقابكم ومن ينقلب على عقبيه فلن يضّر الله شيئاً وسيجزي الله الشاكرين)[سورة آل عمران: الآية 144].
ومن أعجب العجب أن بعض المسلمين بعد إقامة الأدلة الكافية والبراهين الشافية والحجج القاطعة على خلافة أمير المؤمنين (عليه السلام) وبعد المناقشة في سند الحديث ودلالة متنه ومفهومه قالوا: إن علياً هو الأفضل ولكن غيره أصلح(1)!!
وقد أجاب الإمام علي (عليه السلام) على سؤالنا لماذا لم يطالب بحقه في الخلافة.. قائلاً (عليه السلام) بعد أن بويع مضطراً بعد عثمان، (أنشدكم الله أتعلمون أن رسول الله قبض وأنا أولى الناس به وبالناس من بعده؟ فقالوا: اللهم نعم، قال فعدلتم عني وبايعتم أبا بكر، فأمسكت ولم أحب أن أشق عصا المسلمين وافرق بين جماعتهم).
* عمل الإمام علي جاهداً من أجل أن يوطد أركان دولة الإسلام ونشر مبادئه في الآفاق.
* كان الإمام علي يدرك أن قوة دولة الإسلام في وحدة كلمتها لذلك أمر الزبير أن يغمد سيفه عندما طالب بالخلافة لعلي..!؟؟
حقاً إن أمير المؤمنين (عليه السلام) نموذج فريد يجب الإقتداء به لمن أراد الله في قوله وعمله لقد جاهد الإمام الكفار والمنافقين بما متعه الله من قوة سخرها لدين الله وقد حباه الله بقدرة كبيرة على ضبط النفس والحلم عن جهل الجاهلين.
لقد عمل الإمام جاهداً من أجل أن يوطد أركان دولة الإسلام ونشر مبادئه في الآفاق فكان يدرك أن قوتها في وحدة كلمتها لذلك أمر الزبير أن يغمد سيفه عندما طالب بالخلافة لعلي...!؟؟ إطفاءاً لفتنة كان حدوثها قاب قوسين أو أدنى(2).. وبذلك كان يشيع بين الناس مكارم الأخلاق فكان (عليه السلام) يرى أن صلاح الغاية لا يتم إلا بصلاح الوسيلة وغايته هي مصلحة الأمة وصلاحها.. ولأن يخسر أمنه وراحته، خير من أن يهدر قيّمه ولأن يهدي به الله رجلاً واحداً، خيرٌ له من الدنيا وما فيها..!!
فأتخذ الصمت سبيلاً وهو أبلغ وأمضى من السيف في مثل هذه المواقف لأنه لم يبغ الخلافة ولم يطلبها ليتهالك عليها مثلما فعلوا في اجتماعهم عند السقيفة تاركين جسد الرسول ندياً ليحسموا أمرها لصالحهم بغيابه.. فتركها الإمام مؤمناً بأنهم قد خالفوا الله فيما فعلوا كوريث للرسالة الإسلامية ولم تكن نتائج اجتماعهم في السقيفة لتعفيه عن التزاماته فكان صمته الجميل ابلغ من الكلام وكلامه أمضى من السيف الصقيل فقد قال (عليه السلام) في هذا الشأن (وأيم الله لولا مخافة الفرقة بين المسلمين، وأن يعود الكفر ويبور الدين، لكنا على غير ما كنا لهم عليه).
استقبل الأمام علي (عليه السلام) الأحداث التي أعقبت وفاة النبي (صلى الله عليه وآله) بأعصاب هادئة لأنه كان يتوقع ما سوف تؤول إليه الأمور.
وقد قال (عليه السلام) في خطبة له (لقد علمتم أني أحقٌ الناس بها من غيري، والله لأسلمنّ ما سلمت أمور المسلمين، ولم يكن فيها جورٌ إلا عليّ خاصةً، التماسا لأجر ذلك وفضله وزهداً فيما تنافستموه من زخرفه(3) وزبرجه(4)).
ولم يذكر التاريخ من هو أزهد منه في دنياه غير رسول الله والزاهد في ضروراتها لا يطمع في عطائها مهما كان ذلك العطاء، وقد غلّب في صمته عن المطالبة بحقه مصلحة الدين وهو لا يزال فتياً على آية مصلحة أخرى وللحق نقول إن الإمام علي لا مصلحة له في ذلك سوء إعطاء الأولوية لحقوق وواجبات الإسلام التي اشرأبت نفسه لمبادئه..
وهكذا نراه (عليه السلام) طوى عنها وأغلق دونها باباً وتفرغ لعبادة الله وتفقيه المسلمين وإسداء المشورة والنصح لهم ولأوليائهم.
فالمشكلات والمعضلات لم يكن لها إلا علي ولطالما كان أبو بكر يسعى إليه قائلاً (افتنا يا أبا الحسن) ويقول عمر (لو علي لهلك عمر).
لقد سكت الإمام عن حقه مضطراً لأسباب منها.
1- الحفاظ على الأسس والقواعد التي قام عليها الإسلام لتبقى راية الإسلام مرفوعة والنائي بها عن الفتنة والاختلاف..وقد حرص (عليه السلام) عن وحدة المسلمين ولم يعط للمنافقين سبباً لأضعاف الإسلام وقد ذكرنا موقف الزبير بن العوام وانه أول من امتشق سيفيه داعياً لخلافة الإمام علي للرسول (صلى الله عليه وآله)...!!! وهذا أبو سفيان (شيخ المنافقين) يأتي إلى علي مبايعاً منشداً.
أبا حسنٍ فأشدد بها كف حازمٍ***فأنك بالأمر الذي يرتجى ملي
فمـا الأمـر إلا فيكـم واليكــــــم***وليس لها إلا أبو حسن علـي
فقال لأبي سفيان:
* لقد كان الإمام علي يرى أن صلاح الغاية لا يتم إلا بصلاح الوسيلة وغايته هي مصلحة الأمة وصلاحها.
* فأتخذ الإمام علي الصمت سبيلاً وهو أبلغ وأمضى من السيف في مثل هذه المواقف.
* إن الإمام علي لم يبغ الخلافة ولم يطلبها ليتهالك عليها مثلما فعلوا في اجتماعهم عند السقيفة.
(انك تريد أمراً لسنا من أصحابه، وقد عهد إلى رسول الله عهداً فأنا عليه) وكان الإمام قبل ذلك قد أبى مبايعة عمه له مخافة الفتنة..
ولو كان (عليه السلام) مستجيباً لبيعة الزبير وأبي سفيان لأثار بين المسلمين فتنة لم يكونوا في حاجة إليها ولعلهم لم يكونوا قادرين على احتمالها فقد علمنا ما كان من خلاف الأنصار في أمر البيعة حين قبض النبي فكيف لو اختلفت قريش نفسها، وقد ارتد بعض العرب عن الإسلام في خلافه أبي بكر فكيف لو أختلف الذين قام الإسلام عليهم(5).
فكان علي (عليه السلام) موفقاً إذاً، كل التوفيق ناصحاً لله وللإسلام فلم ينصب نفسه للخلافة ولم ينازعها وصبر نفسه على ما كانت تركه، وطابت نفسه للمسلمين بما كان يراه حقاً.
ولم يقصر في النصح للخلفاء كراهية الفتنة وإيثاراً للعافية حرصاً على سلامة الدين والحفاظ على مبادئ الإسلام وتوحيد كلمة المسلمين ودفّع الفرقة عنهم والابتعاد عن الأسباب التي تؤدى إلى سفك دمائهم، وبالتالي يعود الكفر ويبور الدين ويهجر الناس الرسالة المحمدية لاسيما وإنهم حديثو العهد بالإسلام.
سألت السيدة فاطمة الزهراء (عليها السلام) الإمام علي (عليه السلام) عن أسباب عدم مطالبته لحقه في الخلافة وبينما كانت كذلك، إذ قام المؤذن بالأذان مردداً اشهد أن لا اله إلا الله أشهد أن محمداً رسول الله، فأجابها الإمام قائلاً:
(سكت عن المطالبة، حتى يبقى هذا النداء قائماً، وراية الإسلام مرفوعة).
فحفاظاً عن المجتمع الإسلامي من الانقسام إلى شيّع وأحزاب سكت المؤتمن على المبادئ وتحمل الظلم والجور عليه ليحفظ للدين سلامته وليفوت الفرصة على الذين أرادوا شق صفوف المسلمين للنفاذ إليه (أي إلى الدين) من خلال ثغرات الانقسامات التي ستحصل نتيجةً لمطالبة الإمام بالخلافة فكان موقفة صائباً حكيماً يدل على حكمته وعبقريته الفذة.
وعلل العلامة السيد عبد الحسين شرف الدين قعوده في بيته وممانعته عن المبايعة هو احتفاظاً بحقه واحتجاجاً سليماً على من عدل عنه ولو أسرع إلى البيعة لما تمت له حجة ولا سطح له برهان. لكنه جمع فيما فعل بين حفظ الدين، والاحتفاظ بحقه من إمرة المؤمنين(6).
2- زهد الإمام علي (عليه السلام)
لأن الإمام (عليه السلام) كان زاهداً بكل ما يتعلق بأمور الدنيا فأنه زهد بالخلافة لأنها من تلك الأمور الدنيوية. وكان يجهز نفسه (عليه السلام) في الدنيا لأخرته وقد اعتبرها جسراً يمر الإنسان من خلاله إلى عالم الديمومة والبقاء. وكان (عليه السلام) دائم الذم للدنيا وقد قال رسول الله (صلى الله عليه وآله) في زهد علي (عليه السلام) (يا علي إن الله قد زينك بزينة لم يزين العباد بزينة أحب إليه منها هي زينة الأبرار عند الله: الزهد في الدنيا).
وقد قال (عليه السلام) في الدنيا (ما أصف من دار أولها عناء وأخرها فناء في حلالها حساب وفي حرامها عقاب)(7).
(دارٌ بالبلاء محفوفةٌ وبالغدر معروفةٌ لا تدوم أحوالها، ولا تسلم نزّالها، أحوالٌ مختلفةٌ، وتاراتٌ متصرّفةٌ العيش فيها مذمومٌ والأمان فيها معدومٌ وإنما أهلها فيها أغراض مستهدفة ترميهم بسهامها، وتغنيهم بحمامها).
فلم يتعايش الإمام (عليه السلام) معها أبداً.. بل قسى عليها من خلال قسوته على نفسه بكل أنماط العيش المتواضع من لباس وطعام. وهو تأكيدٌ لفلسفة الإمام بدنياه التي لا أطماع له فيها ومنها الخلافة التي اختلف الناس عليها إلا هو.
3- نبذ العصبية القبلية واستبدالها بالإسلام دستوراً للحياة(التقوى) هي الدالة الوحيدة على إيجاد الفرق بين المسلمين في المجمع الإسلامي الجديد فالأكرم بين صفوفهم أكثرهن تُقى وأحسنهم عمقاً ورسوخاً في مبادئ الدين الحنيف وقد قال الله عز وجل (إن أكرمكم عند الله اتقاكم) لذا شهرت أمام حامل الرسالة محمد (صلى الله عليه وآله) سيوف الشر لمقاومة دعوته عندها جاءه الأمر الرباني برفع السيوف الإسلامية أمام تلك السيوف الجاهلية دفاعاً عن مبادئ الإسلام فشهرت وكان على رأسهم علي بن أبي طالب الذي حزّ سيفه رقاب المشركين من الرؤساء والوجوه والشجعان حتى لم تسلم أية قبيلة من سيفه إلا من أسلم منها فتجسدت روح العصبية التي أنهاها الإسلام ونهى عنها بعد أن انتقل المصطفى إلى الملأ الأعلى، فكانوا يضمرون لعلي (عليه السلام) الحقد والحسد والضغينة بسبب سيفه الذي هشم أَبائهم عند صدر الدعوة للإسلام.
* لقد تركوا جسد الرسول ندياً ليحسموا أمر الخلافة لصالحهم بغياب الإمام علي.
* وكان الإمام قد أبى مبايعة عمه له مخافة الفتنة.
* لقد حافظ الإمام في صمته وصبره على الأسس والقواعد التي قام عليها الإسلام.
نعم تجسد ذلك بإبعاده عن الخلافة ومحاولة تهميش دوره فيها وطمس مكانته أو موقعه في قيادة المسلمين وكاد أن يدب الخلاف فيما بينهم لولا عبقرية وكلمة الإمام وسعة أفقه.
واستغل القوم نتائج السقيفة لينالوا منه بسبب ما كان كامناً في نفوسهم وهذا عندهم أكثر ما استطاعوا أن ينالوا منه.. وعنده أقلّ ما نالوه منه!
بقيّ الإمام في دائرة صغيرة محيطها أهل بيته والمتقوّن من المسلمين الأوائل ونفرٌ من الأنصار والمهاجرين ولم يفرط بهم حفظاً على مبادئ الإسلام ولذا كان هذا وذاك سبباً أخر يضاف إلى أسباب سكوته عن حقه في الخلافة.
4- والسبب الرابع:
لقد أوصاه الرسول الكريم بالصبر على كل الأحداث وأصعب الأمور التي ستجابهه بعد انتقاله إلى الرفيق الأعلى. حيث قال له: (يا علي إني اعلم أن لك ضغائن في صدور قوم سوف يظهرونها لك بعدي، فأن بايعوك فأقبل، وإلا فأصبر حتى تلقاني مظلوماً(.
وورد في (مستدرك الصحيحين)(9) للحاكم روى بسنده عن أبي إدريس الاودي.. عن علي (عليه السلام) قال (إن ما عهد إليّ النبي (صلى الله عليه وآله) إن الأمة ستغدر بي بعده).
لذا فالإمام علي صبر تنفيذاً لأوامر رسول الله والإمام خير المسلمين في تنفيذ أوامر الله ورسوله فصبره وسكوته كانا حكمة وتدبيراً لأنهما أمران أمر بهما معلمه العظيم رسول الله من اجل وحدة المسلمين والحفاظ على دينهم القويم.. فقدم الإمام حقه قرباناً لحياة الإسلام وإيثاراً للصالح العام.
لقد حافظ الإمام في صمته وصبره ورده على الأسس والقواعد التي قام عليها الإسلام، فصان
الكيان الإسلامي من عوامل الضعف والوهن التي كادت أن تعتريه والتي كان ذلك بوهن بنانه.
5- الحفاظ على القرآن:
ويمكن أن نضيف إلى ما تقدم: إن الإمام كان يرى نفسه مسؤولاً عن الرسالة حتى لو كان بعيداً عن منصب الخلافة وتعامل مع الأحداث بهذه الروح الايجابية فكان أول عمل قام به هو جمعه للقرآن الكريم فالقرآن قد نزل منجّماً (أي على شكل دفعات) فكانت الآيات نزل حسب الحاجة إلى ذلك وكان بعض الصحابة يكتبون ما ينزل من الآيات من تلقاء أنفسهم أو بأمر الرسول (صلى الله عليه وآله) كانوا يكتبونه على سعف النخل والرقاع وقطع الأديم وعظام الشاة والإبل وأضلاعها.. فأصبحت بعد وفاة الرسول (صلى الله عليه وآله) عرضةً للتحريف إن لم يسرع احدٌ ويبادر بجمع القرآن فصيانة القرآن من الضياع يعني صيانة للإسلام. فعكف في داره مشغولاً بهذه المهمة .. وكتب في آدابه وأشار إلى أسباب النزول وأملى ستين نوعاً من أنواع علوم القرآن وذكر لكل نوعٍ مثالاً يخصه(10) وبهذا العمل الجبار استطاع الإمام إن يحافظ على أهم أصل من أصول الإسلام وأن يوجه العقل نحو البحث عن العلوم التي يزخر بها القرآن ليصبح المنبع الرئيس للفكر والمصدر المباشر الذي يستمدّ منه كل ما يحتاجه الإنسان في حياته من قوانين وبرامج الحياة.
وبعد أن فرغ الإمام علي من تدوينه حمله على جمل منبهاً الناس بأنه قد جمع لهم القرآن ثم توجه إلى عمل آخر وهو تدوينه للأحكام الدينية في كتابٍ واحدٍ وقد أصبح (عليه السلام) مرجعاً للناس في أمور دينهم ودنياهم.
المصادر:
1- الإمام علي جدل الحقيقة، محمود محمد العلي.
2- علي إمام المتقين، عبد الرحمن الشرقاوي.
3- الزخرف: الذهب.
4- الزبرج: الزينة والجواهر والذهب.
5- الفتنة الكبرى طه حسين ج 2.
6- المراجعات: السيد عبد الحسين شرف الدين العاملي.
7- نهج البلاغة شرح محمد عبده.
8- الرياض النضرة للطبري.
9- ج 3 مستدرك الصحيحين.
10- الإتقان في علوم القرآن، للسيوطي.
(وما محمدُ إلا رسولٌ قد خلت من قبله الرسل أفأن مات أو قتل انقلبتم على أعقابكم ومن ينقلب على عقبيه فلن يضّر الله شيئاً وسيجزي الله الشاكرين)[سورة آل عمران: الآية 144].
ومن أعجب العجب أن بعض المسلمين بعد إقامة الأدلة الكافية والبراهين الشافية والحجج القاطعة على خلافة أمير المؤمنين (عليه السلام) وبعد المناقشة في سند الحديث ودلالة متنه ومفهومه قالوا: إن علياً هو الأفضل ولكن غيره أصلح(1)!!
وقد أجاب الإمام علي (عليه السلام) على سؤالنا لماذا لم يطالب بحقه في الخلافة.. قائلاً (عليه السلام) بعد أن بويع مضطراً بعد عثمان، (أنشدكم الله أتعلمون أن رسول الله قبض وأنا أولى الناس به وبالناس من بعده؟ فقالوا: اللهم نعم، قال فعدلتم عني وبايعتم أبا بكر، فأمسكت ولم أحب أن أشق عصا المسلمين وافرق بين جماعتهم).
* عمل الإمام علي جاهداً من أجل أن يوطد أركان دولة الإسلام ونشر مبادئه في الآفاق.
* كان الإمام علي يدرك أن قوة دولة الإسلام في وحدة كلمتها لذلك أمر الزبير أن يغمد سيفه عندما طالب بالخلافة لعلي..!؟؟
حقاً إن أمير المؤمنين (عليه السلام) نموذج فريد يجب الإقتداء به لمن أراد الله في قوله وعمله لقد جاهد الإمام الكفار والمنافقين بما متعه الله من قوة سخرها لدين الله وقد حباه الله بقدرة كبيرة على ضبط النفس والحلم عن جهل الجاهلين.
لقد عمل الإمام جاهداً من أجل أن يوطد أركان دولة الإسلام ونشر مبادئه في الآفاق فكان يدرك أن قوتها في وحدة كلمتها لذلك أمر الزبير أن يغمد سيفه عندما طالب بالخلافة لعلي...!؟؟ إطفاءاً لفتنة كان حدوثها قاب قوسين أو أدنى(2).. وبذلك كان يشيع بين الناس مكارم الأخلاق فكان (عليه السلام) يرى أن صلاح الغاية لا يتم إلا بصلاح الوسيلة وغايته هي مصلحة الأمة وصلاحها.. ولأن يخسر أمنه وراحته، خير من أن يهدر قيّمه ولأن يهدي به الله رجلاً واحداً، خيرٌ له من الدنيا وما فيها..!!
فأتخذ الصمت سبيلاً وهو أبلغ وأمضى من السيف في مثل هذه المواقف لأنه لم يبغ الخلافة ولم يطلبها ليتهالك عليها مثلما فعلوا في اجتماعهم عند السقيفة تاركين جسد الرسول ندياً ليحسموا أمرها لصالحهم بغيابه.. فتركها الإمام مؤمناً بأنهم قد خالفوا الله فيما فعلوا كوريث للرسالة الإسلامية ولم تكن نتائج اجتماعهم في السقيفة لتعفيه عن التزاماته فكان صمته الجميل ابلغ من الكلام وكلامه أمضى من السيف الصقيل فقد قال (عليه السلام) في هذا الشأن (وأيم الله لولا مخافة الفرقة بين المسلمين، وأن يعود الكفر ويبور الدين، لكنا على غير ما كنا لهم عليه).
استقبل الأمام علي (عليه السلام) الأحداث التي أعقبت وفاة النبي (صلى الله عليه وآله) بأعصاب هادئة لأنه كان يتوقع ما سوف تؤول إليه الأمور.
وقد قال (عليه السلام) في خطبة له (لقد علمتم أني أحقٌ الناس بها من غيري، والله لأسلمنّ ما سلمت أمور المسلمين، ولم يكن فيها جورٌ إلا عليّ خاصةً، التماسا لأجر ذلك وفضله وزهداً فيما تنافستموه من زخرفه(3) وزبرجه(4)).
ولم يذكر التاريخ من هو أزهد منه في دنياه غير رسول الله والزاهد في ضروراتها لا يطمع في عطائها مهما كان ذلك العطاء، وقد غلّب في صمته عن المطالبة بحقه مصلحة الدين وهو لا يزال فتياً على آية مصلحة أخرى وللحق نقول إن الإمام علي لا مصلحة له في ذلك سوء إعطاء الأولوية لحقوق وواجبات الإسلام التي اشرأبت نفسه لمبادئه..
وهكذا نراه (عليه السلام) طوى عنها وأغلق دونها باباً وتفرغ لعبادة الله وتفقيه المسلمين وإسداء المشورة والنصح لهم ولأوليائهم.
فالمشكلات والمعضلات لم يكن لها إلا علي ولطالما كان أبو بكر يسعى إليه قائلاً (افتنا يا أبا الحسن) ويقول عمر (لو علي لهلك عمر).
لقد سكت الإمام عن حقه مضطراً لأسباب منها.
1- الحفاظ على الأسس والقواعد التي قام عليها الإسلام لتبقى راية الإسلام مرفوعة والنائي بها عن الفتنة والاختلاف..وقد حرص (عليه السلام) عن وحدة المسلمين ولم يعط للمنافقين سبباً لأضعاف الإسلام وقد ذكرنا موقف الزبير بن العوام وانه أول من امتشق سيفيه داعياً لخلافة الإمام علي للرسول (صلى الله عليه وآله)...!!! وهذا أبو سفيان (شيخ المنافقين) يأتي إلى علي مبايعاً منشداً.
أبا حسنٍ فأشدد بها كف حازمٍ***فأنك بالأمر الذي يرتجى ملي
فمـا الأمـر إلا فيكـم واليكــــــم***وليس لها إلا أبو حسن علـي
فقال لأبي سفيان:
* لقد كان الإمام علي يرى أن صلاح الغاية لا يتم إلا بصلاح الوسيلة وغايته هي مصلحة الأمة وصلاحها.
* فأتخذ الإمام علي الصمت سبيلاً وهو أبلغ وأمضى من السيف في مثل هذه المواقف.
* إن الإمام علي لم يبغ الخلافة ولم يطلبها ليتهالك عليها مثلما فعلوا في اجتماعهم عند السقيفة.
(انك تريد أمراً لسنا من أصحابه، وقد عهد إلى رسول الله عهداً فأنا عليه) وكان الإمام قبل ذلك قد أبى مبايعة عمه له مخافة الفتنة..
ولو كان (عليه السلام) مستجيباً لبيعة الزبير وأبي سفيان لأثار بين المسلمين فتنة لم يكونوا في حاجة إليها ولعلهم لم يكونوا قادرين على احتمالها فقد علمنا ما كان من خلاف الأنصار في أمر البيعة حين قبض النبي فكيف لو اختلفت قريش نفسها، وقد ارتد بعض العرب عن الإسلام في خلافه أبي بكر فكيف لو أختلف الذين قام الإسلام عليهم(5).
فكان علي (عليه السلام) موفقاً إذاً، كل التوفيق ناصحاً لله وللإسلام فلم ينصب نفسه للخلافة ولم ينازعها وصبر نفسه على ما كانت تركه، وطابت نفسه للمسلمين بما كان يراه حقاً.
ولم يقصر في النصح للخلفاء كراهية الفتنة وإيثاراً للعافية حرصاً على سلامة الدين والحفاظ على مبادئ الإسلام وتوحيد كلمة المسلمين ودفّع الفرقة عنهم والابتعاد عن الأسباب التي تؤدى إلى سفك دمائهم، وبالتالي يعود الكفر ويبور الدين ويهجر الناس الرسالة المحمدية لاسيما وإنهم حديثو العهد بالإسلام.
سألت السيدة فاطمة الزهراء (عليها السلام) الإمام علي (عليه السلام) عن أسباب عدم مطالبته لحقه في الخلافة وبينما كانت كذلك، إذ قام المؤذن بالأذان مردداً اشهد أن لا اله إلا الله أشهد أن محمداً رسول الله، فأجابها الإمام قائلاً:
(سكت عن المطالبة، حتى يبقى هذا النداء قائماً، وراية الإسلام مرفوعة).
فحفاظاً عن المجتمع الإسلامي من الانقسام إلى شيّع وأحزاب سكت المؤتمن على المبادئ وتحمل الظلم والجور عليه ليحفظ للدين سلامته وليفوت الفرصة على الذين أرادوا شق صفوف المسلمين للنفاذ إليه (أي إلى الدين) من خلال ثغرات الانقسامات التي ستحصل نتيجةً لمطالبة الإمام بالخلافة فكان موقفة صائباً حكيماً يدل على حكمته وعبقريته الفذة.
وعلل العلامة السيد عبد الحسين شرف الدين قعوده في بيته وممانعته عن المبايعة هو احتفاظاً بحقه واحتجاجاً سليماً على من عدل عنه ولو أسرع إلى البيعة لما تمت له حجة ولا سطح له برهان. لكنه جمع فيما فعل بين حفظ الدين، والاحتفاظ بحقه من إمرة المؤمنين(6).
2- زهد الإمام علي (عليه السلام)
لأن الإمام (عليه السلام) كان زاهداً بكل ما يتعلق بأمور الدنيا فأنه زهد بالخلافة لأنها من تلك الأمور الدنيوية. وكان يجهز نفسه (عليه السلام) في الدنيا لأخرته وقد اعتبرها جسراً يمر الإنسان من خلاله إلى عالم الديمومة والبقاء. وكان (عليه السلام) دائم الذم للدنيا وقد قال رسول الله (صلى الله عليه وآله) في زهد علي (عليه السلام) (يا علي إن الله قد زينك بزينة لم يزين العباد بزينة أحب إليه منها هي زينة الأبرار عند الله: الزهد في الدنيا).
وقد قال (عليه السلام) في الدنيا (ما أصف من دار أولها عناء وأخرها فناء في حلالها حساب وفي حرامها عقاب)(7).
(دارٌ بالبلاء محفوفةٌ وبالغدر معروفةٌ لا تدوم أحوالها، ولا تسلم نزّالها، أحوالٌ مختلفةٌ، وتاراتٌ متصرّفةٌ العيش فيها مذمومٌ والأمان فيها معدومٌ وإنما أهلها فيها أغراض مستهدفة ترميهم بسهامها، وتغنيهم بحمامها).
فلم يتعايش الإمام (عليه السلام) معها أبداً.. بل قسى عليها من خلال قسوته على نفسه بكل أنماط العيش المتواضع من لباس وطعام. وهو تأكيدٌ لفلسفة الإمام بدنياه التي لا أطماع له فيها ومنها الخلافة التي اختلف الناس عليها إلا هو.
3- نبذ العصبية القبلية واستبدالها بالإسلام دستوراً للحياة(التقوى) هي الدالة الوحيدة على إيجاد الفرق بين المسلمين في المجمع الإسلامي الجديد فالأكرم بين صفوفهم أكثرهن تُقى وأحسنهم عمقاً ورسوخاً في مبادئ الدين الحنيف وقد قال الله عز وجل (إن أكرمكم عند الله اتقاكم) لذا شهرت أمام حامل الرسالة محمد (صلى الله عليه وآله) سيوف الشر لمقاومة دعوته عندها جاءه الأمر الرباني برفع السيوف الإسلامية أمام تلك السيوف الجاهلية دفاعاً عن مبادئ الإسلام فشهرت وكان على رأسهم علي بن أبي طالب الذي حزّ سيفه رقاب المشركين من الرؤساء والوجوه والشجعان حتى لم تسلم أية قبيلة من سيفه إلا من أسلم منها فتجسدت روح العصبية التي أنهاها الإسلام ونهى عنها بعد أن انتقل المصطفى إلى الملأ الأعلى، فكانوا يضمرون لعلي (عليه السلام) الحقد والحسد والضغينة بسبب سيفه الذي هشم أَبائهم عند صدر الدعوة للإسلام.
* لقد تركوا جسد الرسول ندياً ليحسموا أمر الخلافة لصالحهم بغياب الإمام علي.
* وكان الإمام قد أبى مبايعة عمه له مخافة الفتنة.
* لقد حافظ الإمام في صمته وصبره على الأسس والقواعد التي قام عليها الإسلام.
نعم تجسد ذلك بإبعاده عن الخلافة ومحاولة تهميش دوره فيها وطمس مكانته أو موقعه في قيادة المسلمين وكاد أن يدب الخلاف فيما بينهم لولا عبقرية وكلمة الإمام وسعة أفقه.
واستغل القوم نتائج السقيفة لينالوا منه بسبب ما كان كامناً في نفوسهم وهذا عندهم أكثر ما استطاعوا أن ينالوا منه.. وعنده أقلّ ما نالوه منه!
بقيّ الإمام في دائرة صغيرة محيطها أهل بيته والمتقوّن من المسلمين الأوائل ونفرٌ من الأنصار والمهاجرين ولم يفرط بهم حفظاً على مبادئ الإسلام ولذا كان هذا وذاك سبباً أخر يضاف إلى أسباب سكوته عن حقه في الخلافة.
4- والسبب الرابع:
لقد أوصاه الرسول الكريم بالصبر على كل الأحداث وأصعب الأمور التي ستجابهه بعد انتقاله إلى الرفيق الأعلى. حيث قال له: (يا علي إني اعلم أن لك ضغائن في صدور قوم سوف يظهرونها لك بعدي، فأن بايعوك فأقبل، وإلا فأصبر حتى تلقاني مظلوماً(.
وورد في (مستدرك الصحيحين)(9) للحاكم روى بسنده عن أبي إدريس الاودي.. عن علي (عليه السلام) قال (إن ما عهد إليّ النبي (صلى الله عليه وآله) إن الأمة ستغدر بي بعده).
لذا فالإمام علي صبر تنفيذاً لأوامر رسول الله والإمام خير المسلمين في تنفيذ أوامر الله ورسوله فصبره وسكوته كانا حكمة وتدبيراً لأنهما أمران أمر بهما معلمه العظيم رسول الله من اجل وحدة المسلمين والحفاظ على دينهم القويم.. فقدم الإمام حقه قرباناً لحياة الإسلام وإيثاراً للصالح العام.
لقد حافظ الإمام في صمته وصبره ورده على الأسس والقواعد التي قام عليها الإسلام، فصان
الكيان الإسلامي من عوامل الضعف والوهن التي كادت أن تعتريه والتي كان ذلك بوهن بنانه.
5- الحفاظ على القرآن:
ويمكن أن نضيف إلى ما تقدم: إن الإمام كان يرى نفسه مسؤولاً عن الرسالة حتى لو كان بعيداً عن منصب الخلافة وتعامل مع الأحداث بهذه الروح الايجابية فكان أول عمل قام به هو جمعه للقرآن الكريم فالقرآن قد نزل منجّماً (أي على شكل دفعات) فكانت الآيات نزل حسب الحاجة إلى ذلك وكان بعض الصحابة يكتبون ما ينزل من الآيات من تلقاء أنفسهم أو بأمر الرسول (صلى الله عليه وآله) كانوا يكتبونه على سعف النخل والرقاع وقطع الأديم وعظام الشاة والإبل وأضلاعها.. فأصبحت بعد وفاة الرسول (صلى الله عليه وآله) عرضةً للتحريف إن لم يسرع احدٌ ويبادر بجمع القرآن فصيانة القرآن من الضياع يعني صيانة للإسلام. فعكف في داره مشغولاً بهذه المهمة .. وكتب في آدابه وأشار إلى أسباب النزول وأملى ستين نوعاً من أنواع علوم القرآن وذكر لكل نوعٍ مثالاً يخصه(10) وبهذا العمل الجبار استطاع الإمام إن يحافظ على أهم أصل من أصول الإسلام وأن يوجه العقل نحو البحث عن العلوم التي يزخر بها القرآن ليصبح المنبع الرئيس للفكر والمصدر المباشر الذي يستمدّ منه كل ما يحتاجه الإنسان في حياته من قوانين وبرامج الحياة.
وبعد أن فرغ الإمام علي من تدوينه حمله على جمل منبهاً الناس بأنه قد جمع لهم القرآن ثم توجه إلى عمل آخر وهو تدوينه للأحكام الدينية في كتابٍ واحدٍ وقد أصبح (عليه السلام) مرجعاً للناس في أمور دينهم ودنياهم.
المصادر:
1- الإمام علي جدل الحقيقة، محمود محمد العلي.
2- علي إمام المتقين، عبد الرحمن الشرقاوي.
3- الزخرف: الذهب.
4- الزبرج: الزينة والجواهر والذهب.
5- الفتنة الكبرى طه حسين ج 2.
6- المراجعات: السيد عبد الحسين شرف الدين العاملي.
7- نهج البلاغة شرح محمد عبده.
8- الرياض النضرة للطبري.
9- ج 3 مستدرك الصحيحين.
10- الإتقان في علوم القرآن، للسيوطي.